موبى ديك ترجمة احسان عباس
موبي ديك او الترجمة الروائية عملا ابداعيا
تحتل رواية "موبي ديك" للاميركي هيرمان ملفيل مكانة مرموقة بين كلاسيكيات الادب العالمي، فهي اضافة
الى كونها الملحمة الكبرى المكتوبة عن صراع تراجيدي بين حوت وانسان تتخذ من هذا الصراع الضاري
وسيلة لتأمل الوضع البشري وعلاقته بالوجود كما تحوله الى كيان رمزي معقد وحكاية الليغورية عن كيفية
العيش مطلق عيش وعن المشروع الاميركي الذي وجد في عمل ملفيل شكلا من اشكال التعبير عن نفسه
في منتصف القرن التاسع عشر أي حين كانت اميركا تكتشف ذاتها كقوة كونية وامبراطورية امبريالية بالقوة
والامكان. فكانت رواية موبي ديك وروايات ملفيل الاخرى بمثابة نبوءة لما ستصير اليه هذه القوة الكامنة.
ومر على صدور "موبي ديك" للمرة الاولى زهاء المئة وخمسين عاما لاقت الرواية خلالها من الاهمال ما
جعل نفس كاتبها تمتلئ باليأس والاحساس بالعجز ليصرف بقية حياته موظفا في سلك الجمارك الاميركية
ويموت مهملا مجهولا في العقد الاخير من القرن التاسع عشر . ولم يلتفت الى الرواية وينظر اليها بصفتها
احد الكتب العظيمة سوى عام 1907 أي بعد وفاة صاحبها بستة عشر عاما ، عندما تم ادراجها ضمن
سلسلة "ايفري مان لايبراري" الشهيرة التي تنشر الكلاسيكيات الكبرى ولم يهتم النقد بالرواية الا في
العشرينات من القرن الماضي حين بدأ الباحثون والنقاد واساتذة الجامعات يكتبون عن هذا العمل الروائي
المدهش الذي طور شكل الكتابة الروائية في منتصف القرن التاسع عشر وجعل الرواية الاميركية تحتل
مكانة متقدمة في تاريخ الرواية العالمية.
لكن اذا كان العالم الادبي احتفل بمرور 150 عاما على صدور هذا العمل الروائي الكبير فان من حقنا
نحن العرب ان نحتفل بمرور نحو السنوات الخمس والثلاثين على صدور الترجمة العربية لموبي ديك بقلم
واحد من النقاد والباحثين والمحققين والمترجمين العرب الكبار أي احسان عباس الذي نحو السنة والنصف
من عمره المديد يترجم الرواية ويعيد خلقها بالعربية.
وعلى رغم ان احسان عباس تمرس في ترجمة الكتب النقدية والفلسفية ولم يترجم قبل "موبي ديك" رواية او
عملا ابداعيا الا ان قارئ الترجمة يجد انها تضاهي الاصل في جماله وسلاسته وبنيته المركبة وتنوعه الاسلوبي وقدرته على عرض مستويات لغوية مختلفة تتناسب والشخصيات التي يحتشد بها العمل الروائي.
في صفحات ترجمة احسان عباس "موبي ديك" التي تزيد عن التسعمائة ، يجلو المترجم روح هذا العمل
الروائي البديع الذي ينتقل من لغة الحياة اليومية في النصف الاول من القرن التاسع عشر الى لغة الكتب
المقدسة. ويعيد صوغ مقاطع من مسرحيات شكسبير ويدمج التأملات بلغة الوصف التفصيلية. وحين يتصدى
عباس لنقل رواية ملفيل الى العربية يحاول ان يكون امينا لمستوياتها اللغوية المختلفة ، لكنه في الوقت نفسه
يحول الفصول المكتوبة بلغة انكليزية رفيعة الى عربية شديدة الفصاحة والرفعة تقترب في جمالها من لغة
كبار الناثرين العرب من امثال الجاحظ وطه حسين ، في الوقت الذي يترجم العبارات الانكليزية المكسرة
الى عربية مكسرة كذلك ولا يجد غضاضة في ان يكتب "يللا .. " في الحوارات التي تجري بين
الشخصيات ناقلا الايحاءات اللغوية وثقافة الشخصيات التي تتحدث في بعض اجزاء الرواية.
يعتمد احسان عباس ، كغيره من المترجمين الكبار الامانة في الترجمة . ونحن لا نجد في هذا العمل الضخم
نقصا في العبارات او اهمالا لبعض الصفحات او اسقاطا لبعض الكلمات التي لم يفهمها المترجم او وجدها
غير دالة حين تنقل الى العربية. لقد كان عباس امينا الى اقصى حدود الامانة في ترجمته لكنه كان امينا
اكثر لروح النص وعالمه الاسلوبي فنقل التعبيرات المعيارية في اللغة الانكليزية الى مقابلاتها في العربية،
كما استخدم روح اللغة والثقافة العربيين في ترجمته لنص موبي ديك عبر عمليات التقديم والتأخير التي تحفظ
للنص الاصلي محتواه وتجعل الترجمة نصا اصيلا جديدا وكأنه مكتوب باللغة التي نقل اليها. ولهذا تستحق
ترجمة عباس لرائعة هيرمان ملفيل ان يحتفل بها بصفتها خلقا جديدا للرواية بلغة رفيعة وبيان عربي اصيل.